من أروع ما أخرج العالم الجليل الراحل جمال بدوى كتاب "الفاطمبة دولة التفاريح والتباريح" الصادر عن دار الشروق عام 2004. ومن يقرأ متعمنا فى هذا الكتاب يلاحظ أن أن هناك العديد من مواقف تاريخنا الحالى يكاد يكون تكرارا لتاريخ الفترة الفاطمية - إن لم يكن كلها تقريبا .
ولنر مثلا وصفه للشدة المستنصرية وهى المجاعة التى عمت البلاد لمدة سبع سنوات متصلة والتى تذكرنا على الفور بهذا الغلاء الفاحش (أى ينعم.. غلاء فاحش.. من فحش فمن فرضوه علينا) وطوابير الخبز التى أصبحت ميادينا للاستشهاد.. يقول:
كانت الصراعات الطائفية أول مسمار دق فى نعش الدولة الفاطمية... أما المسمار الثانى فهو تلك المجاعة التى عمت البلاد طوال سبع سنين لم تشهد مصر لها مثيلا منذ السنوات السبع العجاففى عصر يوسف الصديق وقد فاض المؤرخون فى شرح النكبات التى عاناها المصريون طوال المجاعة وسموها "الشدة المستنصرية" نسبة إلى الخليفة المستنصر. فقد نقص النيل حتى بارت الأرض و شح القوتو انتشرت الأمراض و الأوبئة و بلغ سعر الرغيف خمسة عشر دينارا، و بحث الناس عن الكلاب والقطط ليأكلوها، وبلغ سعر الكلب خمسة دنانير والقطة ثلاثة. واشتدت المحنة حتى أكل الناس بعضهم بعضا كما يذكر المقريزى و كان الرجل يخطف ابن جاره فيشويه و يأكله.
********
يروى المقريزى أن سيدة غنية من نساء القاهرة آلمها صياح أطفالها الصغار و هم يبكون من الجوع لجأت إلى شكمجية حليها و أخذت تقلب ما فيها من مجوهراات و مصوغات ثم تتحسر لأناها تمتلك ثروة طائلة و لا تستطيع شراء رغيف واحد..فاختارت عقدا ثمينا من اللؤلؤ تزيد قيمته على ألف دينار، وخرجت تطوف أسواق القاهرة و الفسطاط فلا تجد من يشتريه.وأخيرا استطاعت أن تقنع أحد التجار بشرائه مقابل كيس من الدقيق،و استأجرت بعض الحمالين لنقل الكيس إلى بيتها، ولكن لم تكد تحخطو بضع خطوات حتى هاجمته جحافل الجياع، فاغتصبوا الدقيق، وعندئذ لم تجد مفرا من أن تزاحمهم حتى اختطفت لنفسها حفنة من الدقيق وحزنت لم حدث من الجماهير الجائعة، فعكفت على عجن حفنة الدقيق و صنعت منها قرصا صغيرة و خبزتها ثم أخفتها فى طيات ثوبها و انطلقت إلى الشارع صائحة : الجوع الجوع... الخبز الخبز... والتف حولها الرجال و النساء و الأطفال و سارت معهم إلى قصر الخليفة الستنصر، ووقفت على مصطبة ثم أخرجت قرصا من طيات ثوبهاو لوحت به و هى تصيح : أيها الناس.. قلتعلموا أن هذه القرصة كلفتنى ألف دينار... فادعوا معى لمولاى السلطان...
********
وقبض على رجل كان كان يقتل النساء والصبيان ويبيع لحومهم ويدفن رؤوسهم وأطرافهم، فقتل، واشتد الغلاء والوباء حتى أن أهل البيت كانوا يموتون فى ليلة واحدة، وكان يموت كل يوم على الأقل ألق نفس، ثم ارتفع العدد إلى عشرة آلاف، وفى يوم مات ثمانية عشرة ألفا، وكان "المستنصر" يتحمل نفقات تكفين عشرين ألفا على حسابه، حتى فنى ثلث أهل مصر، وقيل أنه مات مليون وستمائة ألف نفس، ونزلت الجند لزراعة الأرض بعد أن هلك الفلاحون، وخلت القرى من سكانها، وخربت ضواحى الفسطاط - العسكر و القطائع - وتحولت إلى أطلال خربة.
**تمت**